فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كذلك فعل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان..
ثم نعود إلى إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير. نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن حقدهم على أخي يوسف، وعلى يوسف من قبله، فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة، وينفونها عنهم، ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب: {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}!
إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.. وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات وحكايات وأساطير. كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف؛ وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعًا للتهمة التي تحرجهم، وتبرؤًا من يوسف وأخيه السارق، وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه! لقد قذفوا بها يوسف وأخاه!: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم}..
أسر هذه الفعلة وحفظها في نفسه، ولم يبد تأثره منها. وهو يعلم براءته وبراءة أخيه. إنما قال لهم: {أنتم شر مكانًا}.. يعني أنكم بهذا القذف شر مكانًا عند الله من المقذوف وهي حقيقة لا شتمة.
{والله أعلم بما تصفون}.. وبحقيقة ما تقولون. وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام الذي أطلقوه، ولا دخل له بالموضوع!.. وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه. عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: {لتأتنني به إلا أن يحاط بكم}.. فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى، الشيخ الكبير، ويعرضون أن يأخذ بدله واحدًا منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه؛ ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين: {قالوا يا أيها العزيز إن له أبًا شيخًا كبيرًا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين}.
ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسًا. وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرًا في النفوس: {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذًا لظالمون}.. ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئًا بجريرة سارق. لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق. فعبر أدق تعبير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة: {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه.. {إنا إذًا لظالمون}.. وما نريد أن نكون ظالمين.. وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج، أمام أبيهم حين يرجعون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}
أخرج ابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} قال: يعنون يوسف.
وأخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني، أن عمته، وكانت أكبر ولد إسحق عليه السلام، وكانت إليها منطقة إسحق. فكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام، قد حضنته عمته، فكان معها وإليها. فلم يحب أحد شيئًا من الأشياء كحبها إياه، حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب عليه السلام عليه، فأتاها فقال: يا أخية، سلمي إلي يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت: فوالله ما أنا بتاركته، فدعه عندي أيامًا أنظر إليه، لعل ذلك يسليني عنه. فلما خرج يعقوب من عندها، عمدت إلى منطقة إسحق عليه السلام فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحق، فانظروا من أخذها ومن أصابها. فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت. فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام، فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب عليه السلام فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل ذلك، فهو سلم لك؛ ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت عليها السلام. فهو الذي يقول إخوة يوسف عليهم السلام، حين صنع بأخيه ما صنع: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: سرق مكحلة لخالته.
وأخرج ابو الشيخ، عن عطية رضي الله عنه قال: سرق في صباه ميلين من ذهب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} قال: «سرق يوسف عليه السلام صنمًا لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته».
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ، عن ابن جريج رضي الله عنه في الآية، قال: كانت أم يوسف عليه السلام أمرت يوسف عليه السلام أن يسرق صنمًا لخاله كان يعبده، وكانت مسلمة.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة رضي الله عنه قال: سرقته التي عابوه بها: أخذ صنمًا كان لأبي أمه، وإنما أراد بذلك الخير.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: كان يوسف عليه السلام غلامًا صغيرًا مع أمه عند خال له، وهو يلعب مع الغلمان، فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالًا لهم صغيرًا من ذهب، فأخذه.
قال: وهو الذي عيره إخوته به: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ، عن عطية رضي الله عنه في الآية قال: كان يوسف عليه السلام معهم على الخوان، فأخذ شيئًا من الطعام فتصدق به.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ، عن وهب بن منبه رضي الله عنه أنه سئل: كيف أخاف يوسف أخاه بأخذ الصواع وقد كان أخبره أنه أخوه، وأنتم تزعمون أنه لم يزل متنكرًا لهم؟!... مكايدهم حتى رجعوا فقال: إنه لم يعترف له بالنسب، ولكنه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} قال: أسر في نفسه. قوله: {أنتم شر مكانًا والله أعلم بما تصفون}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {شر مكانًا} قال يوسف: يقول: {والله أعلم بما تصفون} قال: تقولون.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، عن شيبة رضي الله عنه قال: لما لقي يوسف أخاه قال: هل تزوجت بعدي؟ قال: نعم. وما شغلك الحزن علي؟ قال: إن أباك يعقوب عليه السلام قال لي: تزوج لعل الله أن يذرأ منك ذرية يثقلون، أو قال يسكنون الأرض بتسبيحة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}
قوله تعالى: {فَقَدْ سَرَقَ}: الجمهور على {سَرَق} مخففًا مبينًا للفاعل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين {سُرِّق} مشددًا مبنيًا للمفعول أي: نُسِب إلى السَّرِقة. وفي التفسير: أنَّ عَمَّته رَبَّتْه فأخذه أبوه منها، فَشَدَّت في وَسَطِه مِنْطَقَة كانوا يتوارثونها من إبراهيم عليه السلام ففتَّشوا فوجدوها تحت ثيابه. فقال: هو لي فَأَخَذَتْه كما في شريعتهم، وهذه القراءةُ منطبقة على هذا.
قوله: {فَأَسَرَّهَا} الضميرُ المنصوبُ مفسَّر بسياق الكلام أي: فَأَسَرَّ الحزازة التي حَصَلَتْ له مِنْ قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} كقول الشاعر:
أما وِيَّ ما يُغْني الثَّراء عن الفتى ** إذا حَشْرَجَتْ يومًا وضاق بها الصدرُ

والضمير في حَشْرَجَتْ يعود على النفس، كذا ذكره الشيخ، وقد جعل البيتَ مِمَّا فُسِّر فيه الضميرُ بذِكْر ما هو كلٌّ لصاحب الضمير، فلا يكون مما فُسِّر فيه بالسياق. ولتحقيق هذا موضعٌ آخرُ.
وقال الزمخشري: إضمارٌ على شريطة التفسير، تفسيره: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا}، وإنما أنَّثَ لأنَّ قولَه: {شَرٌ مكانًا} جملة أو كلمةٌ على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فَأَسَرَّ الجملةَ أو الكلمةَ التي هي قولُه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا}، لأنَّ قولَه: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} بدلٌ مِنْ أَسَرَّها. قلت: وهذا عندَ مَنْ يُبْدل الظاهرَ من المضمر في غير المرفوع نحو: ضربته زيدًا، والصحيح وقوعه، كقوله:
فلا تَلُمْهُ أن يَخافَ البائسا

وقرأ عبد اللَّه وابن أبي عبلة: {فَأَسَرَّه} بالتذكير. قال الزمخشري: يريد القول أو الكلام. وقال أبو البقاء: المضمر يعود إلى نِسْبتهم إياه إلى السَّرقة، وقد دَلَّ عليه الكلامُ، وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرهُ: قال في نفسه: أنتم شرٌّ مكانًا، وأَسَرَّها أيْ هذه الكلمةَ. قلت: ومِثْلُ هذا يَنْبغي أن لا يُقال: فإنَّ القرآنَ يُنَزَّهُ عنه.
قوله: {مَّكَانًا} تمييزٌ أي: منزلةً من غيركم.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}
قوله تعالى: {مَكَانَهُ}: فيه وجهان أحدهما: وهو الظاهر أنَّ {مكانَه} نصب على الظرفِ، والعامل فيه خُذْ. والثاني: أنه ضَمَّن خُذْ معنى اجْعَلْ فيكونُ {مكانَه} في محل المفعول الثاني. وقال الزمخشري: فَخُذْه بَدَلَه على جهةِ الاسترهان أو الاستبعاد.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
قوله تعالى: {إِنَّا إِذًا}: هذه حرفُ جوابٍ وجزاء، وتقدم الكلامُ على أحكامِها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)}
كان بنيامينُ بريئًا مما رُميَ به من السرقة، فأنطقهم الله تعالى حتى رَمَوْا يوسف عليه السلام بالسرقة، واحدٌ بواحد ليَعْلَم العالمون أَنَّ الجزاءَ واجبٌ.
ويقال كان القُرْحُ بالقَدح أوجعَ ما سَمِعَه يوسف منهم حيث قالوا: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ} فقد كان ذلك أشدَّ تأثيرًا في قلبه من الجفاءِ الأول.
ويقال إذا حَنِقَ عليك المِلكُ فلا تأمَنْ غِبَّه- وإنْ طالت المدة- فإن يوسف عليه السلام حَنِق عليهم فلقوا في المستأنف منه ما ساءَهم مِنْ حَبْسِ أخيه، وما صاحبهَم من الخَجل من أبيهم.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
لم تنفعهم كثرةُ التَّنَصُّل، وما راموا بهمن ذكر أبيهم ابتغاءَ التوسُّل، ولم ينفعهم ما قيل منهم حين عَرَضُوا عليه أن يأخذَ أحدَهم في البَدَل.. كذلك فكلٌّ مُطَالَبٌ بفعل نفسه: {لا تزِرُ وازرةٌ وزِرَ أخرى} [الأنعام: 64]؛ فلا الأبُ يُؤْخَذُ بَدَلَ الولد، ولا القريب يُرضَى به عوضًا عن أحد.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
توهموا أن الحديث معهم من حيث معاملة الأموال، فعَرَضُوا أنفسهم كي يؤخذ واحدٌ منهم بَدَلَ أخيهم، ولم يعلموا أن يوسف عليه السلام كادَهم في ذلك، وأنَّ مقصودَه من ذلك ما استكَنَّ في قلبه مِنْ حُبِّ لأخيه، وكلاَّ.. أَنْ يكونَ عن المحبوبِ بَدَلٌ أو لقوم مقامُ أحدٍ... وفي معناه أنشدوا:
إذا أَوْصَلْتَنا الخُلْدَ كيما تُذِيقنا ** أَبَيْنا وقُلْنا: أنتَ أَوْلَى إلى القلب

وقيل:
أُحِبُّ لَيْلَى وبُغِّضَتْ إليَّ ** نساءٌ ما لَهُنَّ ذُنُوبُ

. اهـ.

.تفسير الآيات (80- 83):

قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أياسهم بما قال عن إطلاق بنيامين، حكى الله تعالى ما أثمر لهم ذلك من الرأي فقال: {فلما} دالًا بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات: {استيئسوا منه} أي تحول رجاءهم لتخلية سبيله لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأسًا شديدًا بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله: {خلصوا} أي انفردوا من غيرهم حال كونهم: {نجيًا} أي ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضًا، من المناجاة وهي رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه في خفاء، من النجو وهو الارتفاع عن الأرض- قاله الرماني، أو تمحضوا تناجيًا لإفاضتهم فيه بجد كأنهم صورة التناجي، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قال كبيرهم} في السن وهو روبيل: {ألم تعلموا} مقررًا لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتد توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم: {أن أباكم} أي الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه.
ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام، قال: {قد أخذ عليكم} أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر: {موثقًا} ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه- كما مضى- كان كأنه منه، فقال: {من الله} أي أيمان الملك الأعظم: لتأتنه به إلا أن يحاط بكم: {ومن قبل} أي قبل هذا: {ما فرطتم} أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطًا عظيمًا، فإن زيادة ما تدل على إرادته لذلك: {في} ضياع: {يوسف} فلا يصدقكم أبوكم أصلًا، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعًا، وأصل معنى التفريط،: التقدم، من قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض».
ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف، أكده ب {ما} النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطًا لا شك فيه: {فلن أبرح} أي أفارق هذه: {الأرض} بسبب هذا، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها: {حتى يأذن لي أبي} في الذهاب منها: {أو يحكم الله} أي الذي له الكمال كله ووثقنا به: {لي} بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها: {وهو} أي ظاهرًا وباطنًا: {خير الحاكمين} إذا أراد أمرًا بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها، فكأنه قيل: هذا ما رأى أن يفعل في نفسه، فماذا رأى لإخوته؟ فقيل: أمرهم بالرجوع ليعلموا أباهم لإمكان أن يريد القدوم إلى مصر ليرى ابنه أو يكون عنده رأي فيه فرج، فقال: {ارجعوا إلى أبيكم} أي دوني: {فقولوا} أي له متلطفين في خطابكم: {ياأبانا} وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها لكم فقولوا: {إن ابنك} أي شقيق يوسف عليه الصلاة والسلام الذي هو أكملنا في البنوة عندك: {سرق}.